فصل: ذكر وقعة الزلاقة بالأندلس وهزيمة الفرنج:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر ملكه أيضاً ميافارقين:

وفي هذه السنة أيضاً، في سادس جمادى الآخرة، ملك فخر الدولة ميافارقين، وكان مقيماً على حصارها، فوصل إليه سعد الدولة كوهرائين في عسكره نجدة له، فجد في القتال فسقط من سورها قطعة، فلما رأى أهلها ذلك نادوا بشعار ملكشاه، وسلموا البلد إلى فخر الدولة وأخذ جميع ما استولى عليه من أموال بني مروان وأنفذه إلى السلطان مع ابنه زعيم الرؤساء، فانحدر هو وكوهرائين إلى بغداد، وسار زعيم الرؤساء منها إلى أصبهان، فوصلها في شوال، وأوصل ما معه إلى السلطان.

.ذكر ملك جزيرة ابن عمر:

في هذه السنة أرسل فخر الدولة جيشاً إلى جزيرة ابن عمر، وهي لبني مروان أيضاً، فحصروها، فثار أهل بيت من أهلها يقال لهم بنو وهبان، وهم من أعيان أهلها، وقصدوا باباً للبلد صغيراً يقال له باب البويبة لا يسلكه إلا الرجالة لأنه يصعد إليه من ظاهر البلد بدرج، فكسروه، وأدخلوا العسكر، فملكه، وانقرضت دولة بني مروان، فسبحان من لا يزول ملكه.
وهؤلاء بنو وهبان، إلى يومنا هذا، كلما جاء إلى الجزيرة من يحصرها يخرجون من البلد، ولم يبق منهم من له شوكة، ولا منزلة يفعل بها شيئاً، وإنما بتلك الحركة يؤخذون إلى الآن.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في ربيع الأول، صار أمير الجيوش في عساكر مصر إلى الشام، فحصر دمشق، وبها صاحبها تاج الدولة تتش، فضيق عليه، وقاتله، فلم يظفر منها بشيء، فرحل عنها عائداً إلى مصر.
وفيها كانت الفتنة بين أهل الكرخ وسائر المحال من بغداد، وأحرقوا من نهر الدجاج درب الآجر وما قاربه، وأرسل الوزير أبو شجاع جماعة من الجند، ونهاهم عن سفك الدماء تحرجاً من الإثم، فلم يمكنهم تلافي الخطب فعظم.
وفيها كانت زلزلة شديدة بخوزستان وفارس، وكان أشدها بأرجان، فسقطت الدور، وهلك تحتها خلق كثير.
وفيها، في ربيع الأول، هاجت ريح عظيمة سوداء بعد العشاء، وكثر الرعد والبرق، وسقط على الأرض رمل أحمر وتراب كثير، وكانت النيران تضطرم في أطراف السماء، وكان أكثرها بالعراق وبلاد الموصل، فألقت النخيل والأشجار وسقط معها صواعق في كثير من البلاد، حتى ظن الناس أن القيامة قد قامت، ثم انجلى ذلك نصف الليل.
وفيها، في ربيع الآخر، توفي إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني، ومولده سنة سبع عشرة وأربعمائة، وهو الإمام المشهور في الفقه والأصولين وغيرهما من العلوم، وسمع الحديث من أبي محمد الجوهري وغيره.
وفيها، في ذي الحجة، توفي محمد بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن الوليد أبو علي المتكلم، كان أحد رؤساء المعتزلة وأئمتهم، ولزم بيته خمسين سنة لم يقدر على أن يخرج منه من عامة بغداد، وأخذ الكلام عن أبي الحسين البصري وعبد الجبار الهمذاني القاضي، ومن جملة تلاميذه ابن برهان، وهو أكبر منه.
وفي هذه السنة توفي القاضي أبو الحسن هبة الله بن محمد بن السيبي، قاضي الحريم، بنهر معلى، ومولده سنة أربع وتسعين وثلاثمائة، وكان يذاكر الإمام المقتدي بأمر الله، وولي ابنه أبو الفرج عبد الوهاب بين يدي قاضي القضاة ابن الدامغاني.
وفيها، في جمادى الأولى، توفي أبو العز بن صدقة، وزير شرف الدولة، ببغداد، وكان قد قبض عليه شرف الدولة وسجنه بالرحبة، فهرب منها إلى بغداد، فمات بعد وصوله إلى مأمنه بأربعة أشهرر، وكان كريماً متواضعاً لم تغيره الولاية عن إخوانه.
وفيها، في رجب، توفي قاضي القضاة أبو عبد الله بن الدامغاني، ومولده سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، ودخل بغداد سنة تسع عشرة وأربعمائة، وكان قد صحب القاضي أبا العلاء بن صاعد، وحضر ببغداد مجلس أبي الحسين القدوري، وولي قضاء القضاة بعده القاضي أبو بكر بن المظفر بن بكران الشامي، وهو من أكبر أصحاب القاضي أبي الطيب الطبري.
وفيها توفي عبد الرحمن بن مأمون بن علي أبو سعد المتولي مدرس النظامية، وهو من أصحاب القاضي حسين المروروذي وتمم كتاب الإبانة. ثم دخلت:

.سنة تسع وسبعين وأربعمائة:

.ذكر قتل سليمان بن قتلمش:

لما قتل سليمان بن قتلمش شرف الدولة مسلم بن قريش على ما ذكرناه، أرسل إلى ابن الحتيتي العباسي، مقدم أهل حلب، يطلب منه تسليمها إليه، فأنفذ إليه، واستمهله إلى أن يكابت السلطان ملكشاه، وأرسل ابن الحتيتي إلى تتش، صاحب دمشق، يعده أن يسلم إليه حلب، فسار تتش طالباً لحلب، فعلم سليمان بذلك، فسار نحوه مجداً، فوصل إلى تتش وقت السحر على غير تعبئة، فلم يعلم به حتى قرب منه، فعبأ أصحابه.
وكان الأمير أرتق بن أكسب مع تتش، وكان منصوراً لم يشهد حرباً إلا وكان الظفر له، وقد ذكرنا فيما تقدم حضوره مع ابن جهير على آمد، وإطلاقه شرف الدولة من آمد، فلما فعل ذلك خاف أن ينهي ابن جهير ذلك إلى السلطان، ففارق خدمته، ولحق بتاج الدولة تتش، فأقطعه البيت المقدس، وحضر معه هذه الحرب، فأبلى فيها بلاء حسناً، وحرض العرب على القتال، فانهزم أصحاب سليمان، وثبت وهو في القلب، فلما رأى انهزام عساكره أخرج سكيناً معه فقتل نفسه، وقيل بل قتل في المعركة، واستولى تتش على عسكره.
وكان سليمان بن قتلمش، في السنة الماضية، في صفر، قد أنفذ جثة شرف الدولة إلى حلب على بغل ملفوفة في إزار، وطلب من أهلها أن يسلموها إليه. وفي هذه السنة في صفر أرسل تتش جثة سليمان في إزار ليسلموها إليه، فأجابه ابن الحتيتي أنه يكاتب السلطان، ومهما أمره فعل، فحصر تتش البلد، وأقام عليه، وضيق على أهله.
وكان ابن الحتيتي قد سلم كل برج من أبراجها إلى رجل من أعيان البلد ليحفظه، وسلم برجاً فيها إلى إنسان يعرف بابن الرعوي. ثم إن ابن الحتيتي أوحشه بكلام أغلظ له فيه، وكان هذا الرجل شديد القوة، ورأى ما الناس فيه من الشدة، فدعاه ذلك إلى أن أرسل إلى تتش يستدعيه،وواعده ليلة يرفع الرجال إلى السورفي الحبال، فأتى تتش للميعاد الذي ذكره، فأصعد الرجال في الحبال والسلاليم، وملك تتش المدينة، واستجار ابن الحتيتي بالأمير أرتق فشفع فيه، وأما القلعة فكان بها سالم بن مالك بن بدران، وهو ابن عم شرف الدولة مسلم بن قريش، فأقام تتش يحصر القلعة سبعة عشر يوماً، فبلغه الخبر بوصول مقدمة أخيه السلطان ملكشاه، فرحل عنها.

.ذكر ملك السلطان حلب وغيرها:

كان ابن الحتيتي قد كاتب السلطان ملكشاه يستدعيه ليسلم إليه حلب، لما خاف تاج الدولة تتش، فسار إليه من أصبهان في جمادى الآخرة، وجعل على مقدمته الأمير برسق، وبوزان، وغيرهما من الأمراء، وجعل طريقه على الموصل، فوصلها في رجب، وسار منها، فلما وصل إلى حران سلمها إليه ابن الشاطر، فأقطعها السلطان لمحمد بن شرف الدولة، وسار إلى الرها، وهي بيد الروم، فحصرها وملكها، وكانوا قد اشتروها من ابن عطير، وتقدم ذكر ذلك، وسار إلى قلعة جعبر، فحصرها يوماً وليلة وملكها، وقتل من بها من بني قشير، وأخذ جعبر من صاحبها، وهو شيخ أعمى، وولدين له، وكانت الأذية بهم عظيمة يقطعون الطرق ويلجأون إليها.
ثم عبر الفرات إلى مدينة حلب، فملك في طريقه مدينة منبج، فلما قارب حلب رحل عنها أخوه تتش، وكان قد ملك المدينة، كما ذكرناه، وسار عنها يسلك البرية، ومعه الأمير أرتق، فأشار بكبس عسكر السلطان، وقال: إنهم قد وصلوا، وبهم وبدوابهم من التعب ما ليس عندهم معه امتناع، ولو فعل لظفر بهم.
فقال تتش: لا أكسر جاه أخي الذي أنا مستظل بظله، فإنه يعود بالوهن علي أولاً.
وسار إلى دمشق، ولما وصل السلطان إلى حلب تسلم المدينة، وسلم إليه سالم بن مالك القلعة على أن يعوضه عنها قلعة جعبر، وكان سالم قد امتنع بها أولاً، فأمر السلطان أن يرمى إليه رشقاً واحداً بالسهام، فرمى الجيش، فكادت الشمس تحتجب لكثرة السهام، فصانع عنها بقلعة جعبر وسلمها، وسلم السلطان إليه قلعة جعبر، فبقيت بيده وبيد أولاده إلى أن أخذها منهم نور الدين محمود بن زنكي، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وأرسل إليه الأمير نصر بن علي بن منقذ الكناني، صاحب شيزر، فدخل في طاعته، وسلم إليه اللاذقية، وكفر طاب، وأفامية، فأجابه إلى المسالمة، وترك قصده، وأقر عليه شيزر.
ولما ملك السلطان حلب سلمها إلى قسيم الدولة آقسنقر، فعمرها، وأحسن السيرة فيها.
وأما ابن الحتيتي فإنه كان واثقاً بإحسان السلطان ونظام الملك إليه، لأنه استدعاهما، فلما ملك السلطان البلد طلب أهله أن يعفيهم من ابن الحتيتي، فأجابهم إلى ذلك، واستصحبه معه، وأرسله إلى ديار بكر، فافتقر، وتوفي بها على حال شديدة من الفقر، وقتل ولده بأنطاكية، قتله الفرنج لما ملكوها.

.ذكر وفاة بهاء الدولة منصور بن مزيد وولاية ابنه صدقة:

في هذه السنة، في ربيع الأول، توفي بهاء الدولة أبو كامل منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي، صاحب الحلة، والنيل، وغيرهما مما يجاورها، ولما سمع نظام الملك خبر وفاته قال: مات أجل صاحب عمامة، وكان فاضلاً قرأ على علي بن برهان، فبرع بذكائه في الذي استفاد منه، وله شعر حسن، فمنه:
فإن أنا لم أحمل عظيماً ولم أقد ** لهاماً، ولم أصبر على فعل معظم

ولم أجر الجاني، وأمنع حوزه، ** غداة أنادي للفخار وأنتمي

وله في صاحب له يكنى أبا مالك يرثيه:
فإن كان أودى خدننا، ونديمنا، ** أبو مالك، فالنائبات تنوب

فكل ابن أنثى لا محالة ميت، ** وفي كل حي للمنون نصيب

ولو رد حزن، أو بكاء لهالك، ** بكيناه ما هبت صباً وجنوب

ولما توفي أرسل الخليفة إلى ولده سيف الدولة صدقة نقيب العلويين أبا الغنائم يعزيه، وسار سيف الدولة إلى السلطان ملكشاه، فخلع عليه، وولاه ما كان لأبيه، وأكثر الشعراء مراثي بهاء الدولة.

.ذكر وقعة الزلاقة بالأندلس وهزيمة الفرنج:

قد تقدم ملك الفرنج طليطلة، وما فعله المعتمد بن عباد برسول الأذفونش، ملك الفرنج، وعود المعتمد إلى إشبيلية. فلما عاد إليها، وسمع مشايخ قرطبة بما جرى، ورأوا قوة الفرنج، وضعف المسلمين، واستعانة بعض ملوكهم بالفرنج على بعض، اجتمعوا وقالوا: هذه بلاد الأندلس قد غلب عليها الفرنج، ولم يبق منها إلا القليل، وإن استمرت الأحوال على ما نرى عادت نصرانية كما كانت.
وساروا إلى القاضي عبد الله بن محمد بن أدهم، فقالوا له: ألا تنظر إلى ما فيه المسلمون من الصغار والذلة، وعطائهم الجزية بعد أن كانوا يأخذونها، وقد رأينا رأياً نعرضه عليك. قال: ما هو؟ قالوا: نكتب إلى عرب إفريقية ونبذل لهم، فإذا وصلوا إلينا قاسمناهم أموالنا، وخرجنا معهم مجاهدين في سبيل الله. قال: نخاف، إذا وصلوا إلينا يخربون بلادنا، كما فعلوا بإفريقية، ويتركون الفرنج ويبدأون بكم، والمرابطون أصلح منهم وأقرب إلينا.
قالوا له: فكاتب أمير المسلمين، وارغب إليه ليعبر إلينا، ويرسل بعض قواده.
وقدم عليهم المعتمد بن عباد، وهم في ذلك، فعرض عليه القاضي ابن أدهم ما كانوا فيه، فقال له ابن عباد: أنت رسولي إليه في ذلك، فامتنع، وإنما أراد أن يبريء نفسه من تهمة، فألح عليه المعتمد، فسار إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، فأبلغه الرسالة، وأعلمه ما فيه المسلمون من الخوف من الأذفونش.
وكان أمير المسلمين بمدينة سبتة، ففي الحال أمر بعبور العساكر إلى الأندلس، وأرسل إلى مراكش في طلب من بقي من عساكره، فأقبلت إليه تتلو بعضها بعضاً، فلما تكاملت عنده عبر البحر وسار، فاجتمع بالمعتمد بن عباد بإشبيلية، وكان قد جمع عساكره أيضاً، وخرج من أهل قرطبة عسكر كثير. وقصده المتطوعة من سائر بلاد الأندلس.
ووصلت الأخبار إلى الأذفونش، فجمع فرسانه وسار من طليطلة، وكتب إلى أمير المسلمين كتاباً كتبه به بعض أدباء المسلمين، يغلظ له القول، ويصف ما عنده من القوة والعدد والعُدد، وبالغ الكاتب في الكتاب. فأمر أمير المسلمين أبا بكر بن القصيرة أن يجيبه، وكان كاتباً مفلقاً، فكتب فأجاد، فلما قرأه على أمير المسلمين قال: هذا كتاب طويل، أحضر كتاب الأذفونش واكتب في ظهره الذي يكون ستراً له.
فلما عاد الكتاب إلى الأذفونش ارتاع لذلك، وعلم أنه بلي برجل له عزم وحزم، فازداد استعداداً، فرأى في منامه كأنه راكب فيل، وبين يديه طبل صغير، وهو ينقر فيه، فقص رؤياه على القسيسين، فلم يعرفوا تأويلها، فأحضر رجلاً مسلماً، عالماً بتعبير الرؤيا، فقصها عليه، فاستعفاه من تعبيرها، فلم يعفه، فقال: تأويل هذه الرؤيا من كتاب الله العزيز، وهو قوله تعالى: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} السورة، وقوله تعالى: {فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير} ويقتضي هلاك هذا الجيش الذي تجمعه.
فما اجتمع جيشه رأى كثرته فأعجبته، فأحضر ذلك المعبر، وقال له: بهذا الجيش ألقى إله محمد، صاحب كتابكم. فانصرف المعبر، وقال لبعض المسلمين: هذا الملك هالك وكل من معه، وذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث مهلكات» الحديث، وفيه: «وإعجاب المرء بنفسه».
وسار أمير المسلمين، والمعتمد بن عباد، حتى أتوا أرضاً يقال لها الزلاقة، من بلد بطليوس، وأتى الأذفونش فنزل موضعاً بينه وبينهم ثمانية عشر ميلاً، فقيل لأمير المسلمين: إن ابن عباد ربما لم ينصح، ولا يبذل نفسه دونك. فأرسل إليه أمير المسلمين يأمره أن يكون في المقدمة، ففعل ذلك، وسار، وقد ضرب الأذفونش خيامه في لحف جبل، والمعتمد في سفح جبل آخر، يتراءون، وينزل أمير المسلمين وراء الجبل الذي عنده المعتمد، وظن الأذفونش أن عساكر المسلمين ليس إلا الذي يراه.
وكان الفرنج في خمسين ألفاً، فتيقنوا الغلب، وأرسل الأذفونش إلى المعتمد في ميقات القتال، وقصده الملك، فقال: غداً الجمعة، وبعده الأحد، فيكون اللقاء يوم الاثنين، فقد وصلنا على حال تعب، واستقر الأمر على هذا، وركب ليلة الجمعة سحراً، وصبح بجيشه جيش المعتمد بكرة الجمعة، غدراً، وظناً منه أن ذلك المخيم هو جميع عسكر المسلمين، فوقع القتال بينهم فصبر المسلمون، فأشرفوا على الهزيمة.
وكان المعتمد قد أرسل إلى أمير المسلمين يعلمه بمجيء الفرنج للحرب، فقال: احملوني إلى خيام الفرنج، فسار إليها، فبينما هم في القتال وصل أمير المسلمين إلى خيام الفرنج، فنهبها، وقتل من فيها، فلما رأى الفرنج ذلك لم يتمالكوا أن انهزموا، وأخذهم السيف، وتبعهم المعتمد من خلفهم، ولقيهم أمير المسلمين من بين أيديهم، ووضع فيهم السيف، فلم يفلت منهم أحد، ونجا الأذفونش في نفر يسير، وجعل المسلمون من رؤوس القتلى كوماً كثيرةً، فكانوا يؤذنون عليها إلى أن جيفت فأحرقوها.
وكانت الوقعة يوم الجمعة في العشر الأول من شهر رمضان سنة تسع وسبعين، وأصاب المعتمد جراحات في وجهه، وظهرت ذلك اليوم شجاعته. ولم يرجع من الفرنج إلى بلادهم غير ثلاثمائة فارس، وغنم المسلمون كل ما لهم من مال وسلاح ودواب وغير ذلك.
وعاد ابن عباد إلى إشبيلية، ورجع أمير المسلمين إلى الجزيرة الخضراء، وعبر إلى سبتة، وسار إلى مراكش، فأقام بها إلى العام المقبل، وعاد إلى الأندلس، وحضر معه المعتمد بن عباد في عسكره، وعبد الله بن بلكين الصنهاجي، صاحب غرناطة، في عسكره، وساروا حتى نزلوا على ليط، وهو حصن منيع بيد الفرنج، فحصروه حصراً شديداً فلم يقدروا على فتحه، فرحلوا عنه بعد مدة، ولم يخرج إليهم أحد من الفرنج لما أصابهم في العام الماضي، فعاد ابن عباد إلى إشبيلية، وعاد أمير المسلمين إلى غرناظة، وهي طريقه، ومعه عبد الله بن بلكين، فغدر به أمير المسلمين، وأخذ غرناطة منه وأخرجه منها، فرأى في قصوره من الأموال والذخائر ما لم يحوه ملك قبله بالأندلس، ومن جملة ما وجده سبحة فيها أربعمائة جوهرة، قومت كل جوهر بمائة دينار، ومن الجواهر ما له قيمة جليلة، إلى غير ذلك من الثياب والعدد وغيرها، وأخذ معه عبد الله، وأخاه تميماً ابني بلكين إلى مراكش، فكانت غرناطة أول ما ملكه من بلاد الأندلس.
وقد ذكرنا فيما تقدم سبب دخول صنهاجة إلى الأندلس، وعود من عاد منهم إلى المعز بإفريقية، وكان آخر من بقي منهم بالأندلس عبد الله هذا، وأخذت مدينته، ورحل إلى العدوة.
ولما رجع أمير المسلمين إلى مراكش أطاعه من كان لم يطعه من بلاد السوس، وورغة، وقلعة مهدي، وقال له علماء الأندلس إنه ليس طاعته بواجبة حتى يخطب للخليفة، ويأتيه تقليد منه بالبلاد، فأرسل إلى الخليفة المقتدي بأمر الله ببغداد، فأتاه الخلع، والأعلام، والتقليد، ولقب بأمير المسلمين، وناصر الدين.

.ذكر دخول السلطان إلى بغداد:

في هذه السنة دخل السلطان ملكشاه بغداد في ذي الحجة، بعد أن فتح حلب وغيرها من بلاد الشام، والجزيرة، وهي أول قدمة قدمها، ونزل بدار المملكة، وركب من الغد إلى الحلبة، ولعب بالجوكان والكرة، وأرسل إلى الخليفة هدايا كثيرة، فقبلها الخليفة، ومن الغد أرسل نظام الملك إلى الخليفة خدمة كثيرة، فقبلها، وزار السلطان ونظام الملك مشهد موسى بن جعفر، وقبر معروف، وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة، وغيرها من القبور المعروفة، فقال ابن زكرويه الواسطي يهنيء نظام الملك بقصيدة منها:
زرت المشاهد زورة مشهودة، ** أرضت مضاجع من بها مدفون

فكأنك الغيث استهل بتربها، ** وكأنها بك روضة ومعين

فازت قداحك بالثواب وأنجحت ** ولك الإله على النجاح ضمين

وهي مشهورة.
وطلب نظام الملك إلى دار الخلافة ليلاً، فمضى في الزبزب، وعاد من ليلته، ومضى السلطان ونظام الملك إلى الصيد في البرية، فزارا المشهدين: مشهد أمير المؤمنين علي، ومشهد الحسين، عليه السلام، ودخل السلطان البر، فاصطاد شيئاً كثيراً من الغزلان وغيرها، وأمر ببناء منارة القرون بالسبيعي، وعاد السلطان إلى بغداد، ودخل الخليفة، فخلع عليه الخلع السلطانية.
ولما خرج من عنده لم يزل نظام الملك قائماً يقدم أميراً أميراً إلى الخليفة، وكلما قدم أميراً يقول: هذا العبد فلان بن فلان، وأقطاعه كذا وكذا، وعدة عسكره كذا وكذا، إلى أن أتى على آخر الأمراء، وفوض الخليفة إلى السلطان أمر البلاد والعباد، وأمره بالعدل فيهم، وطلب السلطان أن يقبل يد الخليفة، فلم يجبه، فسأل أن يقبل خاتمه، فأعطاه إياه فقبله، ووضعه على عينه، وأمره الخليفة بالعود فعاد.
وخلع الخليفة أيضاً على نظام الملك، ودخل نظام الملك إلى المدرسة النظامية، وجلس في خزانة الكتب، وطالع فيها كتباً، وسمع الناس عليه بالمدرسة جزء حديث، وأملى جزءاً آخر.
وأقام السلطان ببغداد إلى صفر سنة ثمانين، وسار منها إلى أصبهان.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في المحرم، جرى بين أهل الكرخ وأهل باب البصرة فتنة قتل فيها جماعة، من جملتهم القاضي أبو الحسن ابن القاضي أبي الحسين بن الغريق الهاشمي، الخطيب، أصابه سهم فمات منه، ولما قتل تولى ابنه الشريف أبو تمام ما كان إليه من الخطابة، وكان العميد كمال الملك الدهستاني ببغداد، فسار بخيله ورجله إلى القنطرة العتيقة، وأعان أهل الكرخ، ثم جرت بينهم ثانية في شوال منها، فأعان الحجاج على أهل الكرخ، فانهزموا، وبلغ الناس إلى درب اللؤلؤ، وكاد أهل الكرخ يهلكون، فخرج أبو الحسن بن برغوث العلوي إلى مقدم الأحداث من السنة، فسأله العفو، فعاد عنهم ورد الناس.
وفيها زاد الماء بدجلة تاسع عشر حزيران، وجاء المطر يومين ببغداد.
وفيها، في ربيع الأول، أرسل العميد كمال الملك إلى الأنبار، فتسلمها من بني عقيل، وخرجت من أيديهم.
وفيها، في ربيع الآخر، فرغت المنارة بجامع القصر وأذن فيها.
وفيها، في جمادى الأولى، ورد الشريف أبو القاسم علي بن أبي يعلى الحسني الدبوسي إلى بغداد، في تجمل عظيم، لم ير مثله لفقيه، ورتب مدرساً بالنظامية بعد أبي سعد المتولي.
وفيها أمر السلطان أن يزاد في إقطاع وكلاء الخليفة نهر برزى من طريق خراسان، وعشرة آلاف دينار من معاملة بغداد.
وفيها أقطع السلطان ملكشاه محمد بن شرف الدولة مسلم مدينة الرحبة وأعمالها، وحران، وسروج، والرقة، والخابور، وزوجه بأخته زليخا خاتون، فتسلم البلاد جميعها ما عدا حران، فإن محمد بن الشاطر امتنع من تسليمها، فلما وصل السلطان إلى الشام نزل عنها ابن الشاطر، فسلمها السلطان إلى محمد.
وفيها وقع ببغداد صاعقتان، فكسرت إحداهما أسطوانتين، وأحرقت قطناً في صناديق، ولم تحترق الصناديق، وقتلت الثانية رجلاً.
وفيها كانت زلازل بالعراق، والجزيرة، والشام، وكثير من البلاد، فخربت كثيراً من البلاد، وفارق الناس مساكنهم إلى الصحراء، فلما سكنت عادوا.
وفيها عزل فخر الدولة بن جهير عن ديار بكر، وسلمها السلطان إلى العميد أبي علي البلخي، وجعله عاملاً عليها.
وفيها أسقط اسم الخليفة المصري من الحرمين الشريفين، وذكر اسم الخليفة المقتدي بأمر الله.
وفيها أسقط السلطان المكوس والاجتيازات بالعراق.
وفيها حصر تميم بن المعز بن باديس،صاحب إفريقية، مدينتي قابس وسفاقس في وقت واحد، وفرق عليهما العساكر.
وفيها، في ربيع الأول، توفي أبو الحسن بن فضال المجاشعي، النحوي، المقري.
وفي ربيع الآخر توفي شيخ الشيوخ أبو سعد الصوفي، النسابوري، وهو الذي تولى بناء الرباط بنهر المعلى، وبنى وقوفه، وهو رباط شيخ الشيوخ الآن، وبنى وقوف المدرسة النظامية، وكان عالي الهمة، كثير التعصب لمن يلتجيء إليه، وجدد تربة معروف الكرخي بعد أن احترقت، وكانت له منزلة كبيرة عند السلطان، وكان يقال: نحمد الله الذي أخرج رأس أبي سعد من مرقعة، ولو أخرجه من قباء لهلكنا.
وفيها توفي أبو علي محمد بن أحمد الشيري، البصري، وكان خيراً، حافظاً للقرآن، ذا مال كثير، وهو آخر من روى سنن أبي داود السجستاني عن أبي عمر الهاشمي.
وفيها توفي الشريف أبو نصر الزينبي، العباسي، نقيب الهاشميين، وهو محدث مشهور عالي الإسناد. ثم دخلت: